
حين تكتب النجاة: عن الكتابة تحت الرماد
في كل مرة أبدأ فيها جملة، أشعر أنني أستخرجها من تحت ركام. ليس ركام بيت فُجّر فحسب، بل ركام داخلي، من الصور والموتى، من الصمت الثقيل والذكريات المقطّعة.
أنا من غزة. وهذه الجملة وحدها تحمل وزن مقالة كاملة. لأن الكتابة هنا ليست هواية، ولا رفاهية، بل بوصلة نجاة. أكتب لأتذكّر أني ما زلت على قيد الحياة. أكتب لأن الحيطان التي كانت تكتب علينا ذاكرتنا سقطت. أكتب لأن لا شيء في هذا العالم يمنحني صوتًا سوى الكلمات.
الكتابة ليست مرآة، إنها جدار. نكتب لنحتمي. نكتب لأن العالم يطلب منا أن نشرح موتنا بلغة يفهمها، بينما نكاد لا نفهمه نحن. حين بدأت أكتب، كنت أظن أنني أروي حكاية شخصية؛ لكنني كنت، دون أن أدري، أنقذ ذاكرة جماعية. نكتب لأن التاريخ لا يحفظ سوى ما كُتب، ولا يعترف بصرخات الأحياء إلا إذا تحوّلت إلى نص.
في لحظة ما، بعد مجزرة، بعد انقطاع كهرباء طويل، كتبت على ضوء شمعة جملة واحدة: "نجونا، لكننا لم نعد كما كنا." ومنذ تلك الليلة، أصبحت الكتابة طريقتي للوقوف. لم أعد أبحث عن لغة أنيقة بقدر ما أبحث عن لغة تُنقذني من الاختفاء.
في زمن يُقصف فيه البيت والشارع والمدرسة والجامعة، تصبح الكتابة بيتًا. نعيد ترتيب الأبجدية كأننا نعيد بناء ما تهدّم. نحمل الكلمات على ظهورنا كما كنا نحمل ما تبقى من أرغفة الخبز. نحتمي بسطر، ونسكن في قصيدة، ونبكي في حاشية.
لكننا لا نكتب فقط عن الألم. نحن نكتب كي نوسّع مساحة الحياة. كي نتذكّر الضحك، الغيم، صوت الأذان في الفجر، رائحة الزعتر، قصص الحب الصغيرة. نكتب لأن الحرب تريد أن تسرق منا كل شيء، حتى التفاصيل، ونحن نكتبها كي لا تضيع.
الكتابة، بالنسبة لي، ليست فقط فعل توثيق، بل فعل مقاومة. مقاومة المحو، مقاومة التجاهل، مقاومة الصمت. في كل مقالة، أحاول أن أقول للعالم: "نحن هنا. نحن بشر. نحن أكثر من أرقام في نشرة أخبار."
أكتب لأنني لا أملك غير ذلك. لأن الورقة بيتي حين يُهدم، وقلمي رفيقي حين يُقتل الرفاق، وجملتي وسادتي حين لا أنام.
أكتب، إذًا، لأبقى.