الركاكة وإضمار العربية
مقالات لغوية

الركاكة وإضمار العربية

د. عبدالله البريدي
٢٢ يناير ٢٠٢٥

الركاكة وإضمار العربية (تم+ المصدر نموذجاً)

"اللغة" في حقيقتها "رأسمال جماعي"، حيث يستيقظ وعيُ الإنسان على لغة يرثها ممن سبقوه، فلا أحد إذن يسعه أن يتصرف فيما لا يملكه ملكية خاصة، ولا أن يبدل فيه من تلقاء نفسه. واللغة حينما تكون رأسمال جماعياً، فهي ليست من قبيل "شركات الأموال" وإنما هي "شركة تضامن"، تقوم على أفراد يتعارفون فيما بينهم (=مجتمع معين)، ويتشاركون في قالب تضامني حيال الأرباح والخسائر، فربحهم اللغوي للجميع، وخسارتهم اللغوية يتحملها الكافة، على أن نتفطن إلى حقيقة أن هذه الأرباح أو الخسائر ليست لغوية صرفة، وإنما هي حضارية، إذ لا تقوم حضارة ولا تتقوى إلا على لغة متينة مستقرة؛ تضمن تراكم: التراث والفكر والإبداع، في نهج تواصلي تعاضدي.

نعم، إن اللغة ليست فِناء خاصاً في محيط بيتك، فتتصرف فيه كما تشاء، فتزيد وتنقص، وتغير وتبدل، بل هي فِناء عمومي؛ يحوطنا ويستوعبنا كلنا، فلا أحد من ثمَّ يسعه التصرف في اللغة، إلا عبر قوانينها هي، وإلا كان المتصرف جائراً، وتحمل تبعة ذلك، إن عاجلاً أو آجلاً.

قد يسأل أحدُنا فيقول: وماذا أملك من اللغة إذن؟ لا تملك منها إلا ما يملك غيرُك من أبنائها، إذ لا نملك إلا بناءها وتركيبها وذخائرها النحوية والصرفية والبلاغية وأدبياتها الشعرية والنثرية، وكأن الإنسان حين يولد يكون له حق في ملكية أسهم من اللغة وهي الملَكة اللغوية وما يصحبها وما يعقبها من أساسيات اللغة الفطرية والمكتسبة، وعلى قدر اجتهاد الإنسان فيما بعد في شراء مزيد من أسهمها يكون حظُه من الملكية أكبر، فالمتعلم لفنونها وأسرارها وطرائق تعبيرها يكون أملكَ ممن يعجز عن دفع كلفة تلك الأسهم اللغوية.

لنعد إلى مسألة جوهرية، وهي التصرف في اللغة من حيث أبنيتها الداخلية أي قواعدها اللغوية وأساليبها التعبيرية، فإلى أي حد يسعنا تغيير هذه الأبنية أو القواعد أو الأساليب وفق ما نراه شرطاً للمواكبة العصرية؟ بعض المشتغلين في علوم اللغة يرون أن اللغة هي أداة اجتماعية يصيّرها المجتمعُ وفق غاياته واحتياجاته وأساليب عيشه، لتحقق اللغةُ التواصليةَ التي يرونها الغايةَ الأسمى لللغة، مما يجعلهم يمتلكون حق التصرف فيها وفق ما يرونه محققاً لذلك، ولو كان عبر تغيير بِنية هذه القاعدة اللغوية أو التعبيرية، ولقد غفل هؤلاء سامحهم الله أن "اللغة هُوية ناطقة"، وليست مجرد أداة للتواصل.

وفي البدء أقول كلمة مكثفة، وأعدها قاعدة عامة: لو تجوّز بعضنا في شيء من قواعد العربية أو أساليبها المحورية، وبعضنا في شيء آخر منها، ما بقي منها شيء. كيف هذا؟ تخيلوا أن أحدنا يرى ضرورة تجاوز هذه القاعدة اللغوية أو الأسلوبية لانتشار أساليب تواصلية أو تعبيرية في المجتمع تخالفها (=هنا تبرير بالشيوع)، ثم يأتي آخر بنفس المنطق فيقترح تجاوز قاعدة أو أسلوب لغوي، ثم يجيء عاشرُ بمبادرة تغيير قاعدة أو أسلوب آخر. هنا نكون إزاء تجاوز عشرات القواعد والأساليب اللغوية، وقد يكون ذلك في غضون عشر سنوات أو حتى عشرين أو خمسين سنة. ماذا سيترتب على ذلك؟

سنكون إزاء ما يمكننا وصفه بـ شرخ زجاجة اللغة. الحياة موّارة بالحركة، والحركة متسببة حتماً في هز الزجاجة هزاً يفضي إلى زيادة الشرخ وتعاظمه وتشعبه، إذ سنكون في متتالية من التغييرات والاقتراحات والالتماسات لتغيير هذه القواعد والأساليب اللغوية، عبر استحسان فلان وتسامح علان، فيكسر هؤلاء زجاجةَ اللغة، وتفقد القدرة من ثمَّ على أن تعكس "المعنى الأسمى". وما المعنى الأسمى؟ إنه كلام الله، إنه القرآن العظيم الخالد، الذي نزل من الخبير الحكيم ليعكس الحق والميزان، بلسان عربي مبين، لسانٍ له أصوله وقواعده، التي ورثناها ضمن رأسمال جماعي وشراكة تضامنية، فهل نضيع الأمانة، ونخون الرسالة؟

ثمة ضعف بيّن في التكوين اللغوي التأسيسي في العقود الخمسة الأخيرة للأسف، بجانب عوامل أخرى كالتفكير بلغات أجنبية حال التعبير والكتابة وتأثير الترجمة على بِنية التفكير اللغوي والتعبير العربي، مما يتسبب في إضمار اللغة في جانب أو آخر؛ فضلاً عن الركاكة التعبيرية وتجنب طرائق العرب في التعبير والبيان.

ولعلي أشير إلى ملمح واحد فقط من هذه الركاكة، وعليكم أن تقيسوا عليه. انتشر في العقد الأخير أسلوب تعبيري غاية في الركاكة مع إضماره لصيغة المبني للمجهول، وهو استخدام كلمة "تم" أو "يتم" + مصدر. والعجيب تكراره، إذ قد تجد الكثير منه في صفحة واحدة، فمثلاً قد تجد في تقرير أو بحث أو محضر اجتماع، ما يلي:

- تم تنفيذ كذا وكذا. - تم عقد اجتماع كذا وكذا. - تم وضع جدول كذا وكذا. - تم ارسال كذا وكذا.

والعرب كانت تستخدم كلمة "تم"، ولكن في سياق تعبير دقيق، وذلك حينما يكون المعنى المراد: الانتهاء التام من عمل شيء ما، فيقول المؤلف مثلاً: تم لنا الاستقراءُ أو البحثُ، أي أننا وصلنا درجة إتمامه وإكماله، وليس معناه أننا قمنا به فقط، كما هو المعنى المعاصر، ولذا فقلَّما نجده، لأن التمام والكمال صعب مناله.

وقد نجم عن هذا الأسلوب الركيك ضمورٌ في استخدام صيغة المبني للمجهول، وهذا جانب مضر للغاية باللغة العربية، حيث تتوارى هذه الصيغة الرصينة شيئاً فشيئاً ويقل توظيفها، فتغدو غير مطروقة، وربما بدت ثقيلة في التعبير وفي الأسماع أيضاً، وقد يهجرها أكثر الناس بعد فترة ويجهلون وظائفها اللغوية في تأمين معان دقيقة. ولعلكم تلحظون أننا بتنا نقرأ الكثير دون أن نجد صيغة المبني للمجهول، وهذا ملاحظ ومتنام، لمن يدقق ويرصد التغير في بنية التعبير المعاصر.

والأسلوب الدقيق للتعبيرات في المثال السابق كما يلي:

- نُفذ كذا وكذا. - عُقد اجتماعُ كذا وكذا. - وُضع جدول كذا وكذا. - أُرسل كذا وكذا.

ومن الأساليب الركيكة الناجمة عن الترجمة، فشو استخدام "الكاف الدخيلة"، من جراء تأثرنا بأسلوب : as a tool ، كقول البعض: "الملاحظة كأداة للبحث"، فهل الكاف هنا للتشبيه أو للتعليل أو للاستعلاء أو أنها زائدة (هذه استخدامات الكاف الصحيحة)؟ لا، ليست لشيء من هذا، ولذا فهو تعبير لغوي خاطئ، والصحيح أن يقال: "الملاحظة أداةً للبحث"، أو "الملاحظة بوصفها أداةً" أو بعدّها أو باعتبارها، والأول أبلغ.

وما سبق يجعلنا نخلُص إلى القول الجازم بوجوب أن نكف عن اجتراح قواعد اللغة العربية أو أساليب التعبير الفصيحة، فاللغة ليست مُلكاً لأحد منا، فيتصرف فيها كيف شاء، وإنما هي ملكية عامة للأمة برمتها، فيتوجب علينا إذن المحافظة عليها وصونها والدفاع عنها، وهذا داخل كله في دلالة آية الحجر: "إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ" ، فنحن مسؤولون أمام الله تعالى، وهي والله لأمانة عظيمة بين أيدينا وعلى ألسنتنا وفي أقلامنا. اللهم، هل بلغت، اللهم فاشهد.